عبد الله ذو البيجادين ( رضي الله عنه )
عبد العزيز الكحلوت
من الصحابة الرجال الذين ضربوا أروع الأمثلة في التضحية والفداء مؤثرا الله عز وجل – على ما سواه وواضعا دبنه في أولويات حاجاته واهتماماته , قبل الجوع والعري والظمأ وهام على وجهه في الصحراء فارا إلى الله ورسوله , فما لانت له قناة ولا فتر له عزم حتى انتقل الى دار الهجرة , إنه عبدالله ذو البيجادين الذي ولد قبل بعثة النبي(ص) وكناه ابوه بعبد العزة , ينتمي إلى قبيلة مزينة التي تقع مضاربها على مسافة غير بعيدة من مكة المكرمة , مات ابوه وهو صغير فنشأ يتيما في كنف عمه الذي لم يبخل عليه بماله ولا حنانه ,فقد كان عمه ذا شأن وثروة , وكانت كلمته مسموعة في قومه , فتقلب في النعيم, فلبس الحرير وركب البعير , ونال كل ما يشتهي ويروم , وعاش بين أقرانه وأترابه منعما يلهو معهم ويعبث وسط الاوثان والاصنام , لايؤثر في حياته شيء , فمرت أيامه متشابهة , ومضت به السنون حتى صار شابا يافعا , ولكنه ظل حائرا يبحث عن اليقين , وفي هذه الفترة كان رسول الله (ص) قد جهر بدعوته , ودخل في الاسلام الكثير من الشباب والمستضعفين , وناصبت قريش الدعوة العداء ونالت من الذين دخلوا في الاسلام وسامتهم سوء العذاب , لذلك فقد أذن لهم رسول الله (ص) بالهجــــرة إلى الحبشـة , وفي اثناء هجرتهم كان الصحابة المهاجرون لايدعون سانحة ولا فرصة إلا ودعوا فيها الى الله سبحانه وتعالى , وكان عبد العزة الموزني الشاب المترف المنعم يرنو اليهم ويهفو قلبه الى معرفة حقيقة هذا الدين الذي من أجله يترك هؤلاء القوم وطنهم وأرضهم وأهلهم وعشيرتهم , ويمضون في الدروب البعيدة , فيعبرون الصحراء في هذا الصيف الحار القائظ , فرارا بدينهم , ولذلك كان كثيرا ما كان يستوقفهم ويسألهم عن حقيقة دينهم , وكانوا رغم ترحالهم وهجرتهم يتوقفون ويدعون الى سبيل ربهم , فشرح الله صدره للإسلام وعلم انه الحق وأن مادونه باطل , فطوى قلبه على حب ربه ورسوله محمد (ص) , وأخذ يتعلم دينه ويتشبث به ,فحفظ من قصار السور ما تسنى له حفظه , وكان يأمل أن تحمل له الأيام أخبار اسلام عمه , وكان يراوده دائما امل اسلام عمه ليفتح له قلبه ويفشي له سره ويقول له وانا اسلمت ياعماه , ولكن عمه ظل على الشرك مستمسكا به , ومضت الأيام تترى وهاجر رسول الله (ص) إلى المدينة , ورأى عبد العزة الموزني أن يلتحق بدار الهجرة ليتفقه في دينه وينضم الى المؤمنين بالدين الجديد , كان يعز عليه في باديء الأمر أن يترك عمه وحيدا فكتم اسلامه , وبقي مع عمه ليرد اليه الجميل ولما طال به الزمن ولم يجد من عمه مايوميء بإسلامه , اتخذ قرارا جريئا وخطيرا وقرر أن يصارحه بإسلامه مهما تكن النتائج , فقد مرت سنون وهو يكتمه وقد حان الوقت ليرفع عقيرته بالاسلام , وليدعو إليه عمه , ولكن عمه غضب منه أشد الغضب , وقال له : " إن أردت الخروج فاخرج مجردا من ملابسك , وبدون دابة " فخرج عبد العزة راجلا فارا بدينه عاريا حافي القدمين متوجها الى المدينة ليلقى حبيبه النبي (ص) وفي الطريق وجد بيجادين (1) أي جوالين ملقيين على وجه الأرض , فستر بهما جسده وواصل المسير إلى المدينة , حتى وصل الى مسجد رسول الله (ص) مجهدا منهكا , فتلقاه الحبيب واستمع إلى قصته , ولما سأله عن اسمه اخبره بأنه عبد العزة , فأسماه عبدالله وكناه بذي البيجاديين , ليظل الاسم رمزا لحرية الانسان من كل اشكال وصور العبودية , فلا عبودية إلا لله الواحد الأحد , الفرد الصمد , ولتظل كنيته ذي البيجادين رمزا لمعاناة شاب ترك رغد العيش ونعيمه فارا إلى ربه مؤثرا الآخرة على الدنيا , عابرا على قدميه الصحراء , وغير مبال بقسوتها , ولا بمعاناته من أجل أن يكون واحدا من فرسان الله الذين وقفوا إلى جانب الحق في مواجهة الباطل .
احبه رسول الله (ص) وقال له : اسكن بجواري , فكان في أضياف النبي (ص) , وظل ملازما للنبي (ص) ملازمة العين لإختها ليقتبس من هدي رسول الله (ص) ومن علمه , وقد شهد له رسول الله (ص) بأنه أواب , وامتد بذي البيجادين العمر فشارك مع النبي (ص) في غزوة تبوك , وهناك قال للنبي (ص) : ادع لي بالشهادة , فربط النبي على عضده وقال : " اللهم إني أحرم دمه على الكفار " فقال : ليس هذا أردت يارسول الله ! فقال النبي (ص) " إذا خرجت غازيا فأخذتك الحمى فقتلتك فأنت شهيد , أو وقصتك دابتك فأنت شهيد " وأقام ذو البيجادين أياما في تبوك فمرض أياما ثم توفي .
يقول ابن مسعود : قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله (ص) في غزوة تبوك , فرأيت شعلة نار في ناحية المعسكر , قال فاتبعتها انظر إليها فإذا رسول الله (ص) وابو بكر وعمر واذا بعبد الله بذي البيجادين قد مات , وإذا هم قد حفروا له ورسول الله (ص) في حفرته وابو بكر وعمر يدليانه إليه وهو يقول (أي الرسول ص ) : " ادنيا إلي أخاكما , فدلياه إليه , فلما هيأه لشقه , قال ( أي النبي ص ) " اللهم إني قد أمسيت راضيا عنه فارض عنه " وعندها قال ابن مسعود : " ياليتني كنت صاحب الحفرة " .
وهكذا فقد قضى عبدالله ذو تالبيجادين ابان اشتراكه في غزوة تبوك التي وقعت في الصيف القائظ الحار ليكون فارسا من فرسان الله , وشاءت ارادة المولى القدير أن يموت مريضا شهيدا كما اخبره النبي (ص) في تبوك فرحم الله ذي البيجادين , وأسكنه فسيح جناته .
عبد العزيز الكحلوت
(1) تقول بعض الروايات أنه (اي عبد العزة الموزاني ) ذهب لأمه فأعطته بيجادا كان لها , فقطعه اثنين فاتزر بواحد وارتدى الآخر ثم أقبل على المدينة .
القسم : - الزيارات : [3487] - التاريخ : 20/7/2010 - الكاتب :