الترويح عن النفس في العيد
عبد العزيز الكحلوت
لكل أمة من الأمم أعياد تتخفف فيها من اعباء الحياة , فتروح بها عن نفسها وتجدد من خلالها قدرتها على البذل والعطاء ومواجهة التحديات , وحب الاعياد فطرة انسانية فطرالله الناس عليها وقلما نجد امة من الأمم أو مجتمعا من المجتمعات لايجعل لنفسه اعيادا يفرح فيها او أياما يروح فيها أفراده عن متاعبهم وجدهم وكدهم بالأداء الجماعي لبعض الفنون أوالطعام الشهي اللذيذ أو الغناء الجميل واللهو البريء الذي لايخدش عرضا ولا يقتحم كرامة ولا يمس حرمة . فالترويح عن النفس حاجة انسانية ضرورية لاستمرار الانسان .
والاعياد تميز الامم والشعوب فلكل امة من الامم اعيادها وافراحها وفنونها , والأمة الاسلامية ميزها الله بيوم الجمعة كعيد اسبوعي تسعد فيه الارواح بالصلاة والدعاء والابتهال وتسعد فيه الابدان بالتواصل واللقاء , وميزها بعيد الفطر الذي يعد عيدا للحرية والتشريع ومكافأة للصائم العابد الملتزم في شهر رمضان الفضيل وعيد الأضحى الذي يعد رمزا للوحدة الاسلامية وتعبيرا عنها . , يقول أنس بن مالك رضي الله عنه " قدم رسول الله (ص) المدينة ولهم – أي الأنصار – يومان يلعبون فيهما فقال : قد أبدلكم الله تعالى بهما خيرا منهما يوم الفطر ويوم الأضحى "
ولقد أتاح الاسلام للمسلمين في هذين اليومين اللهو البريء ترويحا عن النفس وتسلية لها , قالت عائشة رضي الله عنها – فيما رواه احمد والشيخان أن الحبش كانوا يلعبون عند رسول الله (ص) في يوم عيد , فاطلعت من فوق عاتقه , فطأطأ لي منكبيه , فجعلت أنظر اليهم من فوق عاتقه حتى شبعت وانصرفت " .
وفي الصحيحين عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : " دخل علي رسول الله (ص) في يوم عيد وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث , فاضطجع على الفراش وحول وجهه فدخل أبو بكر فانتهرني وقال لي أمزمار الشيطان عند رسول الله فأقبل عليه رسول الله (ص) فقال : دعهما , وقد علق ابن حزم على هذا الحديث , فصح أن الغناء مباح مطلق لا كراهية فيه وأن من أنكره بالكلية فقد أخطأ بلا شك .
والترويح على النفس يقره الاسلام لأنه ينظر إلى الإنسان كجسد وروح ولا يهمل أيا منهما , ويستوعب حاجة الانسان الى اللهو البريء واللعب , كما يستوعب حاجته إلى العمل والجد والإنجاز , والاسلام يحث على الزينة وتلمس الجمال في غير سرف ولا مباهاة , وفي القرآن الكريم نقرأ قول المولى عز وجل " والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لاتعلمون " ( النحل : 8) وقوله تعالى : " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق " الاعراف : 31) .
فالاسلام يمقت التقوى المرهقة القاسية و التزمت والتشدد وقهر الفطرة الانسانية , وينحو في كل احكامه وفرائضه وتعاليمه نحو اليسر فيفرض الوضوء طهارة ثم يردف الحكم بالحكمة " مايريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون " (المائدة : 7 ) ويفرض الصلاة ثم يبين الغاية " وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون " ( العنكبوت : 45 ) ويفرض الصيام ثم يقرر أن الأصل هو التيسير , وهو من اهم القواعد العامة التي يقوم عليها الاسلام . ولأن الاسلام دين ينحو نحو الجمال فقد اقتضت احكامه ان يختار للآذان صاحب الصوت الجميل , وفي الإمامة الأفضل وجها اذا توافر عدد من الأئمة في نفس الوقت وبنفس الشروط . ولقد ابتليت الأمة الاسلامية بطائفة من العلماء المتشددين الذين حرموا اللهو البريء والغناء والموسيقى على اطلاقها دون ان يقدموا ادلة واضحة من الكتاب والسنة , وقدعلق الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق رحمه الله – على هؤلاء بقوله " ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله (ص) ولا في معقولهما من القياس والاستدلال ما يقتضي تحريم مجرد سماع الاصوات الطيبة الموزونة مع آلة من الآلات .." ويستطرد – رحمه الله – فيقول " ولقد تعقب الذين قالوا بحل الغناء والموسيقى جميع أدلة القائلين بالحرمة وقال : إنه لم يصح منها شيء " ( مجلة الازهر – اكتوبر 1961)
وهكذا ينبغي أن يكون العيد تأكيدا لبهجة الحياة فيأخذ المسلمون فيه زينتهم ويعلنون عن افراحهم وابتهاجهم برضا خالقهم , وينعمون فيه باللهو البريء واللعب واستماع الاغاني والموسيقى الجيدة التي لاتخدش الحياءولا تتعدى بكلماتها على الدين ولا تثير الغرائز والشهوات , فالغناء شأنه شأن غيره من الأفعال قبيحه قبيح وحسنه حسن وكذلك تناول الطيبات في غير سرف ولا خيلاء .فيفرحون ويمرحون , والفرح هنا له قدسية , لاننا نفرح بأمر الله فكما أن الصوم فريضة بأمر الله وكما أن الجد في مواضعه مطلوب بشرع الله , فإن الصيام يوم العيد حرام , واستثارة الأحزان فيه كذلك حرام , فالله يعبد بإشاعة الفرح والسرور وتألق البهجة في عيون المسلمين كما يعبد بالجد في معالي الأمور , وكثير من المسلمين لم يلتفت إلى هذه الحقيقة فجعل حياته كلها جدا وغلظة وقسوة وأغلق على نفسه وعياله كل أبواب البهجة والسرور , بينما ذهب البعض الآخر في الاتجاه المعاكس فعب من الشهوات عبا وانطلق في حياة صاخبة معربدة متحللا من كل القيم الاسلامية السامية مرتميا في احضان الرذيلة واللهو الفاحش مشبعا رغباته بكل الوسائل والسبل دون التفات الى حلال او حرام . وهؤلاء وهؤلاء جانبهم الصواب فالذين حرموا انفسهم بهجة العيد وافراحه البريئة خالفوا شرع الله والذين تحللوا من قيم الاسلام تجاوزوا حدوده . ولا ننسى ان الاسلام دين يسر لا عسر وعليه ينبغي ان نراعي حدود الله ولا نستزيد من القيود ولا نحمل أنفسنا ما تطيق ولا نكرهها على التزمت والتشدد ولا ننسى ان الله قد زكى فينا حبنا للجمال وفتح أعيننا على نعمه الكثيرة وأمرنا بتناولها وتلمسها وشكره عليها (و أما بنعمة ربك فحدث ).
والعيد فرصة للتواصل والتراحم ودعوة للتواد والتسامح بين الافراد والاسر والعائلات , وبين الانسان واخيه الانسان , فلا تبقى أحقاد ولا ضغائن , ولايبقى إعراض ولا كراهية , وكما ان العيد تعبير عن إنجاز الصوم الخالص لله تعالى ومكافأة للمسلم بعد أدائه لركن من اركان الاسلام , فهو تعبير كذلك عن الوحدة الاسلامية , وحدة المشاعر الاسلامية ووحدة الصف ووحدة الهدف , فالامة الاسلامية أمة واحدة تسعى لإنجاز اهدافها وعبادة ربها ونيل عفوه ورضاه وتلاحمها وتحابها وتوادها يعد مظهرا ودليلا على استجابتها لخالقها ودليلا على قوتها وقدرتها على مواجهة التحديات .
عبد العزيز الكحلوت/فلسطين
القسم : - الزيارات : [3806] - التاريخ : 19/7/2010 - الكاتب :